أكرم القصاص - علا الشافعي

وفقى فكرى يكتب: دموع فى عيون يائسة

الثلاثاء، 30 سبتمبر 2014 02:09 ص
وفقى فكرى يكتب: دموع فى عيون يائسة صورة أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
دخلت عربة المترو بعد يوم عمل طويل، وانتظرت حتى يخلو مكان لألقى جسدى من التعب وأريح قدماى، جلست وأنا أتمنى أن تغفو عيناى للحظات لحين الوصول إلى محطة نزولى، وضعت على رجلى متعلقاتى واتكأت عليها ونظرت بالصدفة لمن بالمقعد الذى يواجه عيناى فوجدت امرأة أربعينية ذات ملامح مصرية أصيلة، ترتدى عباءة سوداء وحجاب للرأس أسود، وتوارى عيناها الدابلتين زجاج نظارة طبية، وقد أمسكت بشنطة بلاستيكية سوداء بها بعض المتعلقات، ويتكأ على رجلها طفلها الصغير الذى لم يصل إلى تمام عامه السادس بعد، ملامح تلك السيدة مثل ملامح ملايين المصريات، ولا جديد فى ذلك، فبدأت أستعد لتنغلق رموشى وأنعم بدقائق من النوم الخفيف، لكن دمعة ثائرة شقت وجنة المرأة، وجرت فى عنف جرح أنوثة خدودها، أبت ألا تنتظر لحظة أخرى داخل مقلتيها، فألقت بنفسها تجرى فى صمت رهيب حتى استقرت على فمها ذات الشفايف الباهتة الزرقاء، رغم عدسات النظارة الغليظة إلا أنها لم تخف دمعات أخرى تستعد للصراخ والإعلان عن الخروج عن الصمت والانتحار.

لم تعد عيناى تسبح فى سبات الرغبة فى النوم والراحة، فقد أرقّتها دمعة المرأة المصرية، وانشغل عقلى بسؤال ألح على، لماذا تبكى هذه المرأة فى صمت رهيب، لماذا تترك دمعة عاصية تفضح صبرها ورضاها، لماذا لا تردعها وتوقف تمردها، أسئلة كثيرة جالت بعقلى، وجاءت الإجابة من المرأة حين أخرجت لسانها وابتلعت الدمعة داخل حلقها لتواريها عن الناظرين، لقد تجرعت المرأة المرارة التى بدمعتها وحكمت عليها بالإعدام وأجابت على أسئلتى فى قوة وإصرار، لم أفقد أملى فى أن أعرف لماذا تبكى، وماهى قصتها، وتمنيت أن أسألها ولكنى لا أستطيع، يبدو أنها لن تسمح لى أو لغيرى بأن أتطفل على خصوصياتها، كما أن زوجها الجالس بجوارها لا يعبأ بحالها ولا يهتم لشأنها، لماذا أسأل أنا، لماذا أهتم أنا، لماذا أضيع وقتى فى الانتباه لقضية لا تعنينى، الأفضل أن أنام حتى أصل إلى محطتى، ولكن فضولى مازال يأبى إلا أن يظل مهتما، قد يكون سبب بكائها زوجها، ربما أغضبها، ربما حول حياتها إلى حطام وكم من رجل قضى على أنوثة زوجته وكساها بالحزن والدبلان، تباً لك يارجل ألا تستحى من دمعة تشق وجه زوجتك مثل السكين ويراها الجميع ولا تراها أنت، هل هذه هى الرجولة، لقد بدأت أبغض هذه الزوج العاق، وأكاد أموت شوقاً لألطمه بقبضة يدى على وجهه، ليتوقف عن إيلام تلك المرأة المسكينة، ولكن مهلاً، لقد أرسل الزوح يده اليمنى لتلتف على ظهر زوجته تواسيها، هذا الرجل يعلم ما يحدث لزوجته ولكنه لا يملك أن يحتضنها أمام الناس، فآثر أن يواسيها ليخفف عنها، من إذاً المسئول عن وجع تلك المرأة.

فتحت أبواب المترو فى إحدى المحطات، دخلت تلميذات المرحلة الإعدادية، وأحدثوا حالة من المرح داخل العربة، وأخرجونى من انتباهى، وكذلك المرأة التى زاعت عيناها لأول مرة، وتركت شرودها، وراحت تلاحق تلك التلميذات فى اهتمام واضح، ربما تذكرت معهم طفولتها ووقت صفاء القلب وفراغ العقل من أى شىء إلا من الضحك الصادق من القلب، وحديث الصديقات فنزلت دمعة أخرى كانت تنتظر دورها منذ أن جلست أمامها، وأخيراً ذكريات الطفولة أذنت لها بالانتحار، ولكن هذه المرة لم تستقر على شفتاها، وإنما سالت من عينها اليمنى، واستقرت على الأرض فى إعلان واضح عن الثورة على الواقع وحب الموت عن أن تعيش فى ألم الحاضر، لقد عرفت الآن لماذا تبكى، هى تبكى من ألم الفقر وضيق الحال، ولكن هذا نعانى كلنا منه فكم من فقير جفت عيناه من الدموع ولا يشعر به أحد، فجميعنا نبكى ولكن هناك من يبكى بدموعه، ومن يبكى بقلبه، وهناك من يصرخ ببكائه فى ظلام الليل من الحاجة ولا يسمعه أحد، ولكن الرضا الذى يظهر على ملامحها لا يمكن أن نقول معه إن الفقر هو باكيها، لقد وصل بى الفضول حد الإلحاح لأعلم لماذا تبكى؟، قولى لى يا سيدتى قبل أن أبكى من شدة الرغبة، أرجوكى ارأفى بحالى وخبرينى قبل أن تقتلنى الحيرة.

أخيراً قررت أن أتوقف عن الفضول وترك الناس فى حالها، مالى أنا ومال تلك المرأة التى لا أعلم من هى ولماذا تبكى، وما الجديد فى بكائها، لقد قابلت الكثير ممن يبكون فى صمت، لكن صمتها الرهيب وكبرياؤها هو الذى دفعنى للفضول، والآن سأتوقف عن تلك العادة البغضية، أخيراً قررت أن أغادر مقعدى وأبتعد عنها، وأجهز حالى للنزول، فحالى أولى أن أتدبره، فما فى قلبى من هم يساوى همها ولكن دموعى عزيزة مثلى وتأبى أن تنتحر مهما حدث، فمازال عندها الأمل فى الحياة، تصلبت عضلات قدمى استعداداً للوقوف، وفجأة انهزمت المرأة الحديدية وانكبت على وجهها وأخذت وصلة من البكاء بعد أن وضعت يدها على عيونها لتخفى جفونها عن الناس، والدموع تتوالى فى الانتحار على الأرض بشجاعة واضحة وكأنها تترجانى أن أنتظر حتى أعرف لماذا تبكى، تباً لكى يا امرأة لماذا لا تتركينى فى حالى، لماذا لا تتركينى وشأنى، لا أريد أن أعرفك ولا أن أعرف لماذا تبكى، فى قلبى همومى وفى عقلى أحزانى، قلبى أولى أن يجد من يواسيه، لم أجد منك إلا هماً فوق الهم، وبدلاً من أن أستريح ضاع وقتى فى وهم مللت من تحمله.

نظرت من خلال الشباك وعقلى شارداً غارقاً فى التفكير ثم رجعت لأتابع تلك السيدة الحزينة ولكنى لم أجدها، لقد غادرت وتركتنى، لماذا تركتينى، أبعد كل ذلك تتركينى، أبعد أن تجازوت محطة نزولى من أجلك تتشبثى بالنزول فى محطتك وتغادرى، أسئلتى التى احتارت معك طوال رحلتنا، نظرت تحت قدمى فرأيت دموعها مازالت تصارع لحظات الموت، حتى دموعها تركتها ونزلت فى محطتها، يا امرأة تركت كل شىء وذهبت شكراً لكى على دقائق أغرقتينا فى بحور حزنك، حتى خرجت أرواحنا حزناً على حالك وتتركى دموعك وحيرتى هكذا، ربما كان على أن لا أصدقك من البداية، وأن لا أنشغل بحال غيرى، فكم من دمعات نساء أضاعت أعمار رجال، ولكنى أعدك بأنى سأظل دوماً أجلس فى هذا المقعد انتظرك وأنا أنظر تحت قدمى أتذكر دموعك وهى تصارع لحظاتها الأخيرة احتجاجاً على العيش فى عيون يائسة.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
التعليقات 2

عدد الردود 0

بواسطة:

مروه

.....

عدد الردود 0

بواسطة:

مروه

.....

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة