محمد أبو حامد

ماهية مفهوم تعارف الحضارات

الخميس، 22 يناير 2015 11:14 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
إذا أردنا أن نقرّب مفهوم التعارف إلى بعض حقول المعرفة الإنسانية، فإن هذا المفهوم يشترك فى نسق معرفى متقارب أو متجاور لمفهوم التواصل عند المفكر الألمانى المعاصر يورجن هابرماس الذى حوله إلى فلسفة أطلق عليها «التفاعلية التواصلية»، وهى أكثر أفكار «هابرماس» شهرة، فقد اختبرها وتوصل إليها بعد دراسة نقدية لكبريات النصوص الفلسفية باتجاهاتها المختلفة فى منظومات الفكر الأوروبى، وطرحها فى كتابه «القول الفلسفى للحداثة». وينطوى مشروع الحداثة عند «هابرماس» على عدة أبعاد، منها البعدان النفسى والأخلاقى، ويظهر هذان البعدان فى الثورة على الأشكال التقليدية الكلاسيكية، ومحاولة استشراف آفاق إنسانية جديدة تنمو تجاه الشعور والوجدان والذات والأنا بوجه عام، فقد دعا «هابرماس» إلى عقلانية تواصلية بدل العقلانية العدائية التى ترمى إلى تفتيت المجتمع الإنسانى ليحل محله مجتمع الغابة القائم على البقاء للأصلح أو الأقوى، فى حين أن العقلانية التواصلية تعنى عنده التفتح الواسع، والدعوة إلى التقدم والعصرنة والتجديد، وهذه العملية تتطلب- حسب «هابرماس»- نمطًا جديدًا فى العلاقات الإنسانية مغايرًا للنمط القديم الذى يغلب عليه طابع الأداتية «وهو نمط من التفكير الذى يعرف مشكلة ما، ويسعى لحلها دون تساؤل عن مضمون هذه الحلول والغايات، وماإذا كانت إنسانية أم معادية للإنسان»، فالعقل الأداتى- حسب «هابرماس»- هو ذاته يشكّل أيديولوجيا.
لقد وجه «هابرماس» نقدًا لاذعًا للفلاسفة الذين مجّدوا العقل الأداتى الذى هيمن على حياة البشر، وقضى على إنسانية العلاقات البشرية «الحب، الشفقة، العواطف، الانفعالات..»، وجردها من طبيعتها ليضفى عليها زيفًا وقناعًا ولا مشروعية، الأمر الذى جعل الإنسان يفقد الثقة فى الآخر، لذلك نجد أن «هابرماس» يدعو إلى إنشاء معايير وأخلاقيات جديدة ذات بناء عقلانى محض، يكون بعيدًا عن الهيمنة، وإرادة تدمير الآخر.. إن العقل التواصلى هو بمثابة الخروج من سلطة المركزية الذاتية، بمعنى أنه ينبذ التقوقع على الذات، فهو يمثل فعل التجاوز للتقوقع والتمركز الذين تميزت بهما الذات الغربية عبر التاريخ، وهذه العملية تمثل تهذيبًا لـ«الأنا الغربى» من أجل الإقبال على فعل التفتح والحوار مع الآخر، فهو يناهض الأنانية الذاتية والعنصرية، وهما مفهومان تزخر بهما الفلسفات الذاتية، من ثم نجده يدعو إلى إبداع قيم جديدة معاصرة تتماشى مع متطلبات العصر، وليس مع متطلبات الغريزة وحب الهيمنة، فهى قيم إنسانية قاعدتها الاتصال، وتقبل الآخر، وهدفها التطور والتحضر، وعليه فإن فاعلية التواصل فى رؤية «هابرماس» تعنى تجاوز ما يصطلح عليه بفلسفة الذات، والوصول إلى الآخر.
هذا ومن الممكن أن نضفى صفة الاعتبار العلمى لمفهوم التعارف من خلال مفهوم التواصل، هذا المفهوم السهل والبسيط الذى حوله «هابرماس» إلى فلسفة شديدة الأهمية من خلال تأسيسات جوهرية أعطت هذا المفهوم قيمة معرفية، ووطدت صلته بالفكر الفلسفى الذى يضفى أو يضاعف صفة الاعتبار العلمى والأخلاقى للمفاهيم، خاصة أن المفاهيم والنظريات التى تأتى من العالم العربى تواجه تحديات صعبة فى انتزاع الاعتبار العلمى، ليس من الغرب فحسب، إنما من داخل العالم العربى أيضًا، لاسيما أن العقل الذى يبحث فى علم الحضارة وتاريخ الحضارات لم يشهد ازدهارًا وتقدمًا فى الدراسات والجامعات العربية، وليس معروفًا عن الكتابات العربية تميزها فى هذا الحقل، فهى أقرب إلى محاكاة الكتابات الغربية، والتزود بالمعرفة منها، واتباع منهجياتها، ومحاولة تقليدها أو الاعتماد عليها، تضاف إلى ذلك الصعوبة المتعلقة بالإنماء المعرفى لهذه المفاهيم والنظريات ذات المنشأ العربى، وإمكانية دمجها فى التراكمات المعرفية، وإحاطتها بالخبرات والتجارب والحفريات الأثرية والتاريخية والحضارية، هذا من جهة، ومن جهة ثانية المشاركة بتعميمها، وإلفات النظر إليها والدفاع عنها، وهذا ما يفسر عدم قدرة العالم العربى على ابتكار الأفكار والنظريات وإدماجها فى المعارف الإنسانية، وفتح النقاش حولها على نطاق عالمى واسع، كما يفسر أيضًا غياب التضامن والإحساس بالمشاركة بين الباحثين والكتاب فى العالم العربى.
إن مفهوم التعارف يلتقى مع مفهوم التواصل فى نسق معرفى مشترك، فكلاهما يتضمن بناء الجسور، والوصول إلى الآخر، وتجاوز الذات أو فلسفة الذات، حسب تعبير «هابرماس»، ومن جهة أخرى فإن التعارف يتضمن التواصل، فليس هناك تعارف بدون تواصل، لكنه يتجاوزه، بمعنى أن التعارف أوسع وأشمل منه، أما التواصل فقد يكون بتعارف أو بدون تعارف، الفارق بين المفهومين أن التواصل عند «هابرماس» يرتبط بحقل المعرفة، أو هكذا حاول ربطه، فتحددت علاقته بالعقل، أما التعارف فيرتبط بحقل الاجتماع، فتحددت علاقته بالمجتمع والجماعة والناس. وقد أبدى بعض المفكرين العرب نوعًا من القلق العلمى إزاء العلاقة بين فكرة تعارف الحضارات، وفكرة التواصل عند «هابرماس»، وهذا القلق العلمى له علاقة بهاجس الهوية، والشعور بالتمايز الفكرى، والخشية من الاختراق الثقافى، والحذر من الإصابة بالتغرب والتغريب، وضرورة الاحتفاظ بمسافة أو مسافات تفصل وتباعد بيننا وبين الغرب الاستعمارى والإمبريالى المخادع والمتحامل الفاتن والساحر، إلى غير ذلك من صور وأوصاف ظهر عليها الغرب فى تاريخ علاقاته بالأمم والمجتمعات الأخرى غير الأوروبية. ومن وجهة نظرى فإن فلسفة تعارف الحضارات التى دعا إليها القرآن لا تقبل هذه الحساسية فى التعامل مع الحضارات الأخرى، هذا بالإضافة إلى أن الغاية من النسب أو التجاور بين فكرتى التعارف والتواصل تتلخص فى النقاط الآتية:
أولاً: إن تعارف الحضارات هو مفهوم جديد، والكشف عن أى مفهوم جديد يستدعى من الناحيتين المنهجية والمعرفية اختبار هذا المفهوم من مختلف جهاته التى يتصل بها، حتى تتكشف أبعاد هذا المفهوم وعناصره، وتتضح هويته وماهيته، وتتبلور حدوده وعلائقه، وبهذه الطريقة تتحدد صورة المفهوم ويصك، فالتواصل مهما قلنا عنه من تفسيرات وتأويلات هو مفهوم ناظر إلى الآخر، وهكذا الحال مع مفهوم التعارف.

ثانيًا: إن هذه المقاربة مع مفهوم التواصل تنطلق أساسًا من خلفية انتساب هذا المفهوم إلى حقل المعرفة الإنسانية، وليس بوصفه مفهومًا غربيًا متطبعًا بالثقافة الغربية، ومتسلحًا بالأيديولوجيا الأوروبية، والمفترض أنه لا خشية كثيرًا من المفهوم الذى ينتسب إلى الحقل المعرفى، وإلى المعرفة بصورة عامة من جهة المس بالهوية، أو اختراق الثقافة، أو الإصابة بالتغرب، أو غير ذلك من هواجس ومخاوف.
ثالثًا: إن التواصل هو فكرة سهلة وبسيطة، ومع ذلك تحولت إلى نظرية عرف واشتهر بها «هابرماس» فى المجال الأوروبى والإنسانى عمومًا، وجرت حولها نقاشات فكرية وفلسفية لم تنقطع إلى اليوم، وهذا يعنى أنه بإمكان فكرة تعارف الحضارات أن تتحول إلى نظرية لا تقل أهمية وقيمة فى المحتوى الفكرى والأخلاقى والإنسانى عن نظرية التواصل، خاصة أن فكرة التعارف تستند إلى أصل متين يرجع إلى القرآن الكريم الذى هو أصل الأصول عند المسلمين كافة، الاستناد الذى يضاعف من قيمة هذه الفكرة، ويرفع من منزلتها، ويكسبها قدرة على البقاء والديمومة، لهذا فإن هذه الفكرة حتى تنتقل وتتحول إلى نظرية هى بحاجة إلى إنماء معرفى متجدد ومتراكم، وإلى مزيد من النقاش العلمى، وإلى حالة من الاحتضان والتضامن الفكرى والأخلاقى.

رابعًا: إلى جانب تلك الخلفيات والأبعاد فإن هذه المقاربة سوف تؤدى إلى تقريب الكتاب والباحثين والمثقفين عمومًا من فكرة تعارف الحضارات، بوصفها فكرة جديدة بحاجة إلى نوع من العناية والالتفات، وإلى تكثيف النقاش حولها، ودفعها نحو المجال التداولى، فهذه المقاربة بإمكانها أن تمثل إغراء معرفيًا ينجذب إليه هؤلاء الكتاب والمثقفون الذين تستحوذ على اهتماماتهم عادة مثل هذه المقاربات التى لا تخلو من إثارة وطرافة، وما تتسم به من جدل ونقاش، وما تظهر فيها من فروقات ومفارقات.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة