"بيت الياسمين" نص لـ"إيناس نور"

الجمعة، 08 يناير 2016 11:00 م
"بيت الياسمين" نص لـ"إيناس نور" الشاعرة إيناس نور

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كم وددت أن تبرد عاطفتى قليلا أو تتيبس مثل وردة تضطرها الطبيعة إلى الذبول وهى تشغف بالحياة .

كم وددت أن يجف النبض فى جوف الكلمات وأن يسيل الحس منى ويرطب ذاكرة الطرقات، كم حَجبتُ عنى الرؤية وتخفيت كى لا يلحقنى زيف الأشباح. لكن لغة العيون كانت أصدق الأصوات، وصوت الهمس كان مضيئا وتلألؤ الجواهر بين أكوام الخراب كان جاذبا يحبسنى حتى أحرره مما أعاقه وأطلقه فى الفضاء.

ولكل جوهر بريقه وقيمته، وقلبى الهش لا يطرب للجواهر الساكنة بل يفضل الجواهر المتحركة الفتية النبض، الفواحة الأصل؛ كياسمينة الحب المحشورة بين قلبين يترقرق شذاها ليرطب شقوق الجفاء، وتقاوم جذورها الضاربة فى السماء حالات الاجتثات.

ولياسمين الحب طقوس وصلوات وابتهالات، فلا ينبت طواعية مثل الزهور، بل تطلقه كلمة الله التى يرافقها شغف نحو الاكتمال، يبذره دمع الانتظار، ويسقيه الثبات على الأصل رغم حيرة الشُعب، وتكاثر المغريات، وما إن يشتد الضباب ويحتدم الوله على القلب إلا تأمَّل الصادقُ أن يطلَّ قمره ويُؤَالف الأرواح؛ فيزهر الياسمين.

يأتى الحبيب حينما تكفر كل الأسماء بمعانيها فلا الطرق ولا الأماكن ولا الأشياء تظل على أسمائها، فتمر على طريق الغضب وتركب من محطة الحنين، ويقابلك مقهى الأوهام، وتستقل تاكسى اللهفة الذى تدفع له نقودا ليُوَصِلَك بسرعة وتبقى منتظرا بالساعات أو قل بالسنوات.

شارع البكاء الذى يحطم أجزاء قلبك التى شغلها الراحلون، وجسرُ سَرْدِ الذكريات، والشجرة الشاهدة ورخامات النافورة المقابلةُ للمسجد المتحدثة، والنوافذ المتفرجة والأغصان الحاضنة؛ الجامعة والمفرقة، والرصيف الذى يخطو بينك وبين الزمن، والخطوات التائهة من تعداد الألم. وياليت الجدار ظل صامدا أمام هبوب رياح الشمال ونزوح رمال الجنوب، وياليت القلب ما لان للاستجداء ولا استكان للأغراب. لكن الوصل لا يأتى من رواح، فكم منحت الأوجاع من تحف، وكم صنعت التحف من حدائق تسامت فيها الروح وتحرر الإنسان.

يأتى الحبيب حينما تكف الطيور عن بوحها لك بأسرارها التى تتعلمها من جوب البلدان، ولا يعود لطلوع الشمس أى مدلول لناظريك ولوجدانك؛ فلم تعد قادرا على التفتح مثل الأزهار ولا روحك بها من العطر المتاح فتبوح به، أيبستها الشدائد وامتصت دماءها المحاولات البائسة فى البحث عن رى يناسب ظمأها، وزاد يَسدُّ حوجتها، ولباس يوارى عُوارها.

تستقل الحلم لتهرب من تذمر الظروف والمعيقات فتجد نفسك غير قادر على التخيل؛ حبر قلمك يجرى لكنه لا يستطيع رسم ورودها فيك، تلك التى يحوى حنانها تعب السنينَ وهزائم الماضى وشدائد الحاضر، القرينة التى يفوح من بين صدرها الحب، وتدق بين يديها أجراس الأمومة، ويُسكن سلامُ عينيها وجعَ الحياة.

أى يأس هذا الذى قاد الحبيب إليك !!! إنه يأس من كل وجوه الفرح إلا به، وإحباط من جدوى العناية إلا بمعناه، وإفراط فى الزهد رجاء بلوغ جنته. ربما تفتر عن معالجة نباتات الحزن الطفيلية التى تسلقت عودك وتهملها وتواصل السير مبتسما للطريق ابتسامة حيية، لا تشاركها حتى مع من يصحبك أو من يراك؛ لأن طاقة عطائك أصبحت عزيزة ومحسوبة الذرات؛ فتكلم الناس بعشر وعيك وما تبقى تنثره للحمام ليأخذه معه إلى نبع السلام.

تبكى بكاء الشارد الضال لأى كلمة يلقيها غريب متذمر، وتئن أنين كمان كسير مرت على وتره ريح باردة أرخت روابط عزمه فانفرط الصبر. تزداد حواسك حاسة أخرى تَنْبِضُ من خلالها الأشياء، ويعبِّر بها الآخر عن دواخله المستعصية الظهور والانكشاف. فيعترض الأثاث المهجور على وحشته ويسألك البقاء بقربه، وتلُوح لك الشجرة العطشانة أن اسقني، وتقنعك النوافذ أن لا تفتحها بيدك فقط بل تفتحها بقلبك وترى ما لا تراه الأعين، فتغريك النسائم أن ترافقها للغدير أين ينعكس وجه الحبيب الأثير على صفحة الماء، تشهق لهفة فترأف بك حبيبات الماء فتحرك ثغر الحبيب مبتسما وعيناه تموج بالحنين.

فى أثناء الانتظار؛ عليك المحافظة على حياة الدليل داخلك، وما دليلك إلى الحب سواك. دع كل الملتصقات بشخصك يقضى بعضهن على بعض، حارب من يحاول تحويلك عما أنت عليه ومن يريد صرفك عما تريد، واجتهد فى معرفة إنسانك أكثر، وليمت كل شيء وليتحول العالم إلى رماد إلا قشةَ معناك الأخيرة؛ ادفنها فى أأمن منفًى داخلك، واسقها بماء العيون، وخلوص القلب، متجردا من خوفك ومن طيفك إلا من أصلك المشع. ربما لن تحتاج أن تتلون أذيالك بالزهرى وأن تفوح سحائب أفكارك بالفانيليا لتنمو فى صدره زهور بلون السماء فينبض الياسمين.

ارتطام السماء بالأرض سيمر خفيفا لو تصالحت مع كل شيء حتى مع الكوابيس التى تقض عليك مضجعك فى ليالى الشتاء الطويلة. سيل ذكريات آلاف السنين الخوالي، وملايين السنوات الآتية أو قل الأبد المجتاح لذهنك سيكون حنونا لو ألنت أوتارك واتسقت مع اللحن وجُدت بالغناء. حضور حبيبك المقدسُ سيتلطف عند نزوله بك لو أفسحت له منزلة الروح فى الروح.

لنسترح يا أناى من وعثاء الطريق، هناك شىء أجمل من كل هذا الوجود، أراه/ أرانى وطنا كالذى أومن به، وطنا أحيا اليوم بعد اليوم فى محاولة الانتماء إليه، وطنا أفقد أبعاضى كل يوم لأقيمه بينى وبين العالم. إنه يقترب، ها قد أصبح حقيقة، فليذهب ما مضى حيث يريد، ولنرسم بسمة على قرص الشمس، وليجر أطفال القلب بين جداول الشمس الذهبية الرابطة بيننا وبين الخلود.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة