كريم عبد السلام

أزمنة الشعر- 13.. ملاحظات على سبيل التقديم

الأربعاء، 03 يوليو 2019 03:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
المشهد الشعرى المصرى والعربى الراهن غنى كمًا وكيفًا، زاخر بأصوات عديدة من المراكز الثقافية العربية الأساسية «مصر - الشام - العراق»، ومن خارج هذه المراكز الأساسية، من الخليج والمغرب العربى والسودان، وفى ظنى أن هذا الزخم الشعرى قد جاء نتيجة عوامل عدة فى مقدمتها التطور الذى لحق وسائل الاتصال، فلم يعد الشاعر أو القارئ العربى فى موريتانيا بحاجة إلى الذهاب إلى القاهرة أو بيروت، والإقامة فى أى منهما حتى يتعرف على الاتجاهات الجديدة فى الشعر والنثر، بل بإمكانه بضغطة زر على حاسوبه الشخصى أن يتعرف على معظم النماذج الشعرية فى هذه العاصمة العربية أو تلك، بل وفى المهاجر العربية، ومن ثم أصبحت مشاركة الشاعر أو الكاتب فى موريتانيا أو البحرين فى إنجاز النص الجديد بارزة وفورية، فجسور الالتقاء مقامة ومفتوحة على مدار الساحة، وإمكانية الحوار لا يعوقها مزاج الرقيب أو العسكرى أو رجل الحدود، كما كان سائدًا فى عقود سابقة.
 
فى قلب المشهد الشعرى المصرى والعربى تقف قصيدة النثر باعتبارها ممارسة للحرية، وتعبيرًا عن إرادة فردية، ومشروعًا واعدًا دائمًا، فقد تطابقت القصيدة مع حيوات شعرائها وخيباتهم وانتصاراتهم الصغيرة، كما تطابقت مع مفاهيمهم للتحقق، سواء كانت هذه المفاهيم خارجة من رحم الممارسة الشعرية والثقافية، أو كانت خارجة من احتجاج اجتماعى، سياسى، سيان الأمر، وتظل مع ذلك القصيدة مفتوحة على احتمالات التوافق بين نجاح صاحبها فى الإمساك بجديد على المستوى التعبيرى والجمالى، واجتراح المختلف على مستوى الرفض والتمرد الاجتماعى السياسى.
 
الشعر المصرى الجديد يمثل تيارًا شديد التميز والكثافة فى قلب المشهد الشعرى العربى منذ خمسة وعشرين عامًا تقريبًا، بعد أن تجاوز حقبة السبعينيات القاحلة إبداعيًا، فقد عبر الشعراء المصريون مع مطلع الألفية الجديدة مأزق الشعراء السابقين الذين اعتمدوا التهويمات اللغوية والإحالات الصوفية المعماة أو الزخرفة اللغوية للتغطية على عجز عن الإفصاح وضعف فى الموهبة وغياب الحدس الشعرى الخلاق، حتى وإن ترافق ذلك بكثير من الضجيج والتطاول وافتعال المعارك الزائفة ضد الرواد أصحاب المنجز الشعرى.
 
الشعراء المصريون الجدد تجاوزوا مأزق أسلافهم القريبين إلى نوع من الحرية والمغامرة، وإلى التعبير عن النفس وعن فردية كانت غائبة فى ظل هيمنة القطيع لفترة طويلة، انفلات من أسر تصميمات جمالية وتقسيم مجانى للشعرية العربية بين بيروت والقاهرة وبغداد والشام،  ومن ثم أصبحنا أمام أصوات عديدة واعدة كمشاريع شعرية تنمو باطمئنان، ولا تنشغل بتصنيف حضورها تحت راية أقطاب سابقين، أو طريقة مهيمنة فى التعبير.
 
لا أقول إن هذا الأمر كفيل بإنتاج شعراء كبار ضمن قوس الشعرية العربية المتطور فقط، بل أقول إن مناخ الحرية والانفلات والفردية يمكن أن ينتج شعراء متميزين ومتعددين أو إضافات مهمة ومتنوعة إلى الشعرية العربية، فهو يزيل الكوابح والمحددات عن أفق التعبير، ويمنح كل شاعر فرصته كاملة ليقترب من نفسه، ولينظر فى مشروعه الجمالى ويقول ما لديه دون ضغط من إرهاب الصيغة.
 
وعندما أصدرتُ مجلة «شعر»، المعنية بقصيدة النثر وتقاطعاتها، منذ أكثر من عشر سنوات، كنت أظن أننا فى حاجة ماسة إلى إصدار يقترب من جوهر قصيدة النثر المصرية وتخومها وينابيعها السرية وكيف تتقاطع مع مختلف أنواع الفنون والتعبير، خاصة أن الجهود النقدية كانت ولا تزال فقيرة إلى حد كبير ولا تستطيع الإحاطة بانفجارات الخيال والتعبير فى الشعرية الجديدة ولا تستطيع فهم معنى أن تكون القصيدة توترا دائما يشبه حركة الحياة كما تمارسها الكائنات، جدلا مطردا ودائما بين الموجودات، لا مكان فيه للموت، لا مكان فيه للثبات، ولادة جديدة فى كل لحظة، لا استعادة لما يتحقق من الإبداع، بل استشراف ما لم يتعين بفعل قدرة الشاعر ورؤيته وخياله وأحلامه. 
 
كانت المعركة وستظل مع الشروط التى تسمح بوجود قصيدة النثر مزدهرة مقروءة متلقاة تلقيا إيجابيا فاعلا، ونقول إننا نرى هذه الشروط الآن تكاد تنعدم، رغم أن قصيدة النثر تمثل حاليا المتن الشعرى العربى، فكل مظاهر التفكير الحر وممارسة الحياة الحقة غائبة فى محيطنا العربى، كل ما يحدث الآن ضد قانون قصيدة النثر، الذى هو، علامة التغير والتبدل والتجدد ونشدان الإضافة، وما نواجهه جميعا شعراء وكتابا ومثقفين من مناخ الاستقطاب السياسى أو إغلاق المجال العام أو الحروب الأهلية أو حصار الثقافة والإبداع من المتطرفين المهووسين من ناحية، وممن ينصبون أنفسهم حراسا للأخلاق من ناحية أخرى، لابد أن يوجد المناخ غير المواتى للإبداع أو التلقى الإيجابى الفاعل، وربما هذا ما جعل مجلة شعر تصدر ثلاثة أعداد فقط خلال سنوات ثلاث، ثم تتوقف على أمل دائم بالعودة للتعبير عن القصيدة فى كل تجلياتها وأحلامها.
 
تواجه الشعرية المصرية والعربية الآن أزمتين كبيرتين، أولاهما تتمثل فى غياب دور النشر المتخصصة والمعنية بنشر الشعر فى البلدان العربية، خاصة تلك الدور التى تراهن على التجارب الجديدة، فعلت ذلك سابقا دار الآداب فى بيروت برهانها على شعراء التفعيلة، وفعلت ذلك جزئيا دار رياض الريس برهانها على الأصوات التى تلت رواد قصيدة التفعيلة، وفعلت ذلك دار الجديد التى حرثت الأرض العربية من المحيط إلى الخليج وقدمت مئات الإصدارات الشعرية للأجيال الشابة والتجارب الجديدة الطليعية، كما فعلت الأمر نفسه دار النهضة العربية، ولكن بعد تخلى «الآداب» عن مواكبة التطور الشعرى وقلة الإصدارات الشعرية من «رياض الريس».
 
وبعد مرور دار الجديد بضائقة أثرت بالسلب على مشروعها الطموح، وما يبدو أنه تراجع من دار النهضة عن رفع لواء نشر الأعمال الشعرية، لم يعد لدينا دار نشر واحدة فى العالم العربى نستطيع الإشارة إلى أنها تقف إلى جانب الإبداع الشعرى وحركة تجديده أو تسهم فى صنع مناخ مساند له، بل كل ما هنالك صناعة نشر عشوائية تراهن على الربح وتروج لمقولة إن الشعر خاسر بالنسبة لدار النشر، ومن ثم لا يجد الشعراء فى بلادنا التى مازالت تتبنى مركزية الثقافة والنشر، إلا الدور الحكومية التى تفرض معايير رقابية، مما يكرس لكل ما هو ضد الروح الشعرية مثلما يكرس للتدجين والخوف وكبح المعنى والرقابة الذاتية وغيرها من أشكال القمع الداخلية والخارجية.
 
أما الأزمة الثانية التى تواجهها الشعرية المصرية والعربية فهى صناعة النقد، وأظن أن النقد الحق للشعر فى بلادنا العربية يدخل ضمن الأشياء النادرة، وهذا الغياب جزء من منظومة تشكل حياتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية، حياة تغيب عنها سمات الحياة، فليس من الغريب أن يتحول النقد إلى نوع من الرطانة غير المفهومة، أو المتابعات الصحفية السريعة، لا ابتكار ولا تحليل ولا قدرة على الاستشراف واكتشاف السياقات التى يبدع خلالها الشعراء، بل على العكس فالشعراء يذهبون إلى مناطق بكر فى قصائدهم والنقاد بروح أصولية عجيبة يجترون مقولات قديمة ويصطنعون قوالب يتخيلون أنها تستوعب هذا الحراك المستمر.
 
أكتب لأعرف ما يطرأ على خيالى وأفكارى وما يتنامى فى وعيى، أكتب انطلاقًا من رغبة عيش الحياة لا مراقبتها، فأجدنى أراقبنى وأنا أراقب الحياة، ثم أجترئ تدريجيًا على عيشها، أكتب إعجابًا بقدرات مجهولين وبشر عاديين بسطاء على ممارسة الحياة حتى آخر قطرة، أذهب وأقف طويلًا أمام صبى الخباز الذى يضع الأرغفة الساخنة على أقفاص بانتظام، أو أمام عامل المقهى وهو يحدق فى مساحة صغيرة من الأرض لابد أن تكتسى بالكامل بالمياه، فى هذا الطقس البسيط اليومى بالنسبة لواحد من العامة، نوع من الإنجاز والعمل، وأنا أريد أن أحقق ذلك بقصيدتى أو فى قصيدتى.
 
أحيانًا يملؤنى يقين بأننى لست موجودًا خارج القصيدة، لست فى البيت، لست فى دوامات العمل، لست من يداعب طفله، لست من ينام ويحدق فى الفراغ، لست من يتحرك ويلقى التحيات هنا وهناك، يملؤنى شعور بأننى لو لم أكتب ستنسحب الحياة منى، فأتمادى فى عدم الكتابة، لكن فى اللحظة الأخيرة أندفع إلى القصيدة كممارسة وحيدة أجيدها، بينما أمضى فى الحياة، كمن يقف أمام قطار الدلتا البطىء بدافع اليأس، ثم يلقى بنفسه جانبًا فى اللحظة الأخيرة. 
 
وفى أحيان أخرى، مثل الأيام الأخيرة، أجدنى مدفوعًا لغرس فسيلة فى أرض قاحلة يضربها الهجير طوال النهار والليل، أو للتصدى نقديًا بقراءات فى الأعمال الشعرية لزملائى خلال العقود الثلاثة الأخيرة،  على أمل أن ينفتح المجال أمام حوار نقدى حقيقى حول قصيدة النثر المصرية الراهنة، يشارك فيه الشعراء برؤاهم وخبراتهم الجمالية وشهاداتهم،  تعويضًا للجدب النقدى الذى نشهده حاليًا.
وللحديث بقية.
 









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة