حازم حسين

بحثا عن استراتيجية دائمة لا حلول مرحلية.. أهمية أن نُخاطب العدوّ بلُغته وفى عقر داره

الإثنين، 06 مايو 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

الحربُ أوّلها كلام؛ على ما يقولُ الأثرُ، ولا سلامَ دون كلامٍ أيضًا. لُغة الحوار هى الحدّ الفاصل وجودًا وعدمًا بين استعار النار وانطفائها، وبحسب مُفرداتها تتحدَّد رقعةُ الحريق وسخونته، أو درجةُ الهدوء وبرودتها. والحادثُ أنَّ المحاورات المُثمرة كانت ضائعةً فى فلسطين: أوّلاً لناحية غطرسة الاحتلال وتقطيعه مسارات التفاهم الصالحة لتسوية القضية، وثانيًا فيما بين أبناء المِحنة وبعضهم، وما تسلَّط عليهم من انقسامٍ عميق يكاد يُغلق عشريّته الثانية. وإذا كانت الوساطةُ النشطة من جانب مصر قد قاربت على مدّ الجسور بغية الوصول إلى هُدنةٍ ثانية فى غزّة؛ فإنّ تحصين التهدئة الوشيكة وترفيعها إلى مستوى الاستقرار الدائم، ما يزال مرهونًا بالحفاظ على قنوات الاتصال، وتوسعتها، والانتقال بها لتكون فعّاليةً دائمةً على المستويين: أى مع العدو فى ميدان الاشتباك، وفيما بين الأشقاء على مساحات التلاقى المُمكنة.


بذلت القاهرةُ جهودًا حثيثة على مدى الشهور الماضية، ومنذ تُوِّجَت حركتُها مع الشريكين القطرى والأمريكى بإنجاز الهُدنة الأولى أواخر نوفمبر الماضى، لم تتوقَّف عن التماس كلِّ السُّبل الكفيلة بإطفاء النار، وتجديد حالة الهدوء على قاعدة الظرف الإنسانى، وسعيًا لأن تكون مسارًا دائما يُفضى لتثبيت أوضاع الجبهة، والتحرُّك باتّجاه الخروج من ساحة الحرب. وقد حملت الأسابيعُ الأخيرة رسائلَ عديدة تبدو مُتضاربةً، بين حديث واشنطن عن التهدئة ورفض اقتحام رفح، ثمّ تمريرها حزمةَ مُساعداتٍ عسكرية قياسية للاحتلال، وإحباط خطوة الاعتراف بالدولة الفلسطينية عبر بطاقة «الفيتو» فى مجلس الأمن، وترافقت مع ذلك ضغوطٌ على الدوحة من جانب بعض أعضاء الكونجرس بغرض تحييدها، ما دفعها لإعلان التوقُّف لتقييم موقفها، ومُراجعة نشاطها على خطِّ الوساطة. بينما ظلَّ الثابتُ المبدئى الذى لم يتبدَّل منذ أكتوبر الماضى، مُتحقِّقًا فى خطاب الدولة المصرية بكلِّ مستوياتها، وفيما تُرجِمَ إليه الخطابُ من خطواتٍ عمليّة فى الداخل والخارج، آخرها تقاطُر الوفود من حماس وتل أبيب؛ للتوافُق على أحدث نُسَخ الصفقة المُنتظَرة لوقف النار ومُبادلة الأسرى.


ما زالُ الشائعُ بين الناس، وفى المداولات الإعلامية، رُزمة الأفكار والتسلسلات الإجرائية التى تضمَّنتها ورقةُ باريس، بمُشاركة الوساطة الثلاثية ومندوبين عن الفصائل الغزِّية ودولة الاحتلال. وقد وُضِعَت عراقيلُ عديدةٌ من الطرفين فى طريق الاتفاق، وتشدَّد نتنياهو وائتلافُه اليمينى فى تفريغ الوثيقة من مضمونها، لا سيّما بعد تهديد أحزاب الصهيونية الدينية بنقض التحالف وإسقاط الحكومة؛ حالَ الذهاب إلى تسويةٍ تُوقِف الحربَ أو تزيح مُخطَّط اجتياح رفح من فوق الطاولة. وإزاء الانسداد المُتنامى، وتعطُّل القطار على السِّكَّتين الأمريكية والقطرية، تكفَّلت مصر بالتقدُّم إلى الأمام والأخذ بزمام المبادرة، وصارت اليوم القناةَ الوحيدة التى تمرُّ عبرَها الرسائلُ والتفاهمات، بينما يجرى النقاشُ فى حدود ورقةٍ جديدة أعدَّتها، صحيح أنها تستضىء بمُخرجات الجولة الفرنسية، وسوابق النقاشات وتجربة نوفمبر؛ إلَّا أنها تحملُ طابعًا جديدًا أكثر ديناميكية وتدرُّجًا فى النظر لمسألة التهدئة المُمتدّة، خصوصًا لناحية صفقات التبادُل، وأعداد المشمولين بها، وفترة التوقُّف المُبكّرة، والجدول الزمنى المقبول فيما بعد الخطوة الأولى. وحتى اللحظة لا يمكن القول إنَّ المتواتر إعلاميًّا يُمثّل حقيقة الطرح والمداولات الجارية بشأنه؛ إنما الواضح أنَّ الأوضاع تسيرُ صوبَ الحلحلة.


استقبلت الحاضنةُ المصرية وفودًا من الطرفين، ولم ينقطع التواصل مع شريكى الوساطة، بالزيارات المُباشرة أو الاتصالات الدائمة. وخلال الأسبوع الماضى حلَّت مجموعات من حماس والمعنيِّين بالمُفاوضات من الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وطار وفدٌ أمنىّ رفيع المستوى إلى تل أبيب، ثمّ عادت الحركة برَدِّها على المُقترحات وصياغتها. والإشارات المُتلاحقة من كلِّ الأطراف تُبشِّر بإيجابية الجولة الأخيرة، أمَّا آخر الرسائل المُتردِّدة من جانب المسؤولين المصريين فتُشير إلى نشاطٍ دؤوب فى الكواليس، وإحراز تقدُّمٍ ملموسٍ باتّجاه تحبير البنود المقبولة، والوصول إلى توافقاتٍ جادّة على النقاط الخلافية. والأرجح أننا أقربُ للهُدنة اليوم من أىِّ وقتٍ مضى، وإن كان الجوّ لا يخلو من من مُشاكسةٍ ومحاولات للتفلُّت من الالتزامات؛ لا سيّما فى جهة نتنياهو وحكومته، وضغوطهم التى لا تنقطع على مندوبيهم فى المفاوضات؛ فالمشهد العام يُوحى بالانتقال من مرحلةِ الحِدّة إلى تليين المواقف، واحتمال أن ينتهى الماراثون اللاهثُ إلى برنامجٍ مرحلىٍّ قابلٍ للتطبيق.


ثمّة مُتغيّرات أفرزتها الحربُ الطويلة، ولم تعُد الجبهةُ بعد سبعة أشهر من الانفلات على حالها الأُولى، كما أنتجت الديناميكات الإقليمية والدولية وضعًا مُلحًّا لا يسمحُ باستمرار المُغامرات الحارقة دون أُفقٍ سياسى، أو مُواصلة الجنون على أمل أن تنكسر إرادةُ طرفٍ؛ لصالح أن يخرج غريمُه بحصّالةِ مكاسب كاملة. فى جانب غزّة وفصائلها المُسلَّحة؛ فاقت الأوضاعُ الإنسانيةً الطاقةَ، وصارت فوقَ منسوب الخطر المُهدِّد بالانفجار، ولا شىء على ألسنة الغزِّيين إلّا المُطالبة بالهُدنة وإيقاف طاحونة الدم. يُضاف لهذا ما يحمله التهديدُ بعملية فى رفح، وغموض مسألة الرصيف البحرى الأمريكى، وكيف يُمكن أن يكون أداةً لخدمة الاحتلال وأهدافه العلنيّة والمُضمَرة، ثمّ اتّساع حجم الدمار وانعدام فُرَص الحياة، والحاجة العاجلة لتمهيد الأرض لرؤيةٍ جديدة، تسمح ببدء الإعمار وتأمين مُستقبل الإدارة الفلسطينية للقطاع. وعلى الجانب الآخر فإن نتنياهو فى محنةٍ كاملة؛ إذ انكشفت خطَّته وتبدّت الهشاشةُ المُخيِّمة على الدولة وجيشها؛ رغم التوحُّش فى القتل والتدمير، ومنسوبُ الاحتجاجات آخذٌ فى التصاعُد بين عائلات الأسرى وأهالى الجنود المقتولين فى الحرب، والانقسامات التى بدأت اجتماعيّةً وأيديولوجية انتقلت إلى الكابينت المُصغَّر، ثمّ إلى الحكومة نفسها مع تصلُّب التوراتيِّين، بن غفير وسموتريتش وحُلفائها، وانفتاح يمين الوسط والمعارضة على الأمريكيين، كما فى اتصالات يائير لابيد وبينى جانتس وغيرهما، والأهمّ أنّ الجنرالات غير راضين عن المُخطَّط الزمنى للصراع منذ أكتوبر إلى الآن، وكانت استقالة رئيس شُعبة الاستخبارات العسكرية مُؤشّرًا على الخلاف فى اقتسام فاتورة التقصير والفشل، ثمّ مُبادرة يوآف جالانت ورئيس الأركان هرتسى هاليفى لإقرار حزمة تعيينات عسكرية دون التشاور مع رئيس الحكومة تعبيرًا عن انعدام الثقة. وإلى ذلك؛ تُلقِى التطوُّرات الدولية ضغوطًا مُركّبة على سلطة الاحتلال، سواء فى كثافة التحرُّكات داخل المُؤسَّسات الدولية وإن أُحبِطت بشائرها، وموجة الاحتجاجات المُتصاعدة فى الجامعات الأمريكية، واعتراف دُوَلٍ جديدة بفلسطين وقَطع غيرها للعلاقات مع إسرائيل، كما فى حالتى ترينيداد وتوباجو وكولومبيا، مع اتّفاق حكوماتٍ أُوروبيّة عدّة على خطواتٍ شبيهة. والمُحصّلة أنَّ الطرفين صارا مُلتصقين بالجدار، وتآكلت أوراقُ المناورة والعناد، وبدا أنَّ الخُلوصَ إلى تهدئةٍ مُعجَّلة قد يكونُ أسلمَ الحلول وأقلّها ضررًا.


لم يعُد محلَّ شَكٍّ أنّ إسرائيل ربحت التكتيك وخسرت الاستراتيجية. بمعنى أنها ربما كسبت معركتَها الظرفيّة بحسبة الميدان؛ لكنها هُزِمَت فى الحرب، على معناها الواسع عن حسم الصراعات، أو تصفية الأوضاع التى خلقت مناخَ الاشتباك ودفعت إلى الصدام. و»حماس» لن تخرج خاليةَ الوفاض من الخسائر أيضًا؛ إذ تضرَّرت عسكريًّا وسياسيًّا، وحالة التلاحم الشعبية القائمة تحت النار ربما تتفكَّك مع أوّل وقفةٍ مُقبلة، أو فى المدى الطويل ما بعد ترتيبات السياسة وخُطَط الإعمار والإدارة فى المستقبل. وربما ينسحبُ الأمر على مراكزها فى الخارج؛ فتُضطرّ إلى تغيير معاقلها وتبديل تحالفاتها الظاهرة والخفيّة. باختصار؛ ربحت القضيّةُ دفعةً معنوية لا يُمكن إنكارها، وخسر المختصمون فيها ماديًّا ودعائيًّا، وتلك الخسارة ربما تسمح بتطويع الحناجر المُتصلّبة واستخلاص الهُدنة الواجبة؛ لكنها قد لا تكون مُبشِّرةً بشأن التسوية السياسية والحلّ الدائم. فالخارجون من حلبة المُلاكمة بأنوفٍ نازفة؛ قد لا يقبلون لُغةً التصالح والأحضان الدافئة. ربما يتبادلون المُصافحةَ والابتسامات العابرة؛ لكنَّ مخزون الغيظ والهزائم المعنويّة وتضرُّر الهيبة والكبرياء قد يظل حاكمًا لفترة طويلة.


فى تلك النقطة تُثار مسألةٌ شديدة الأهمية؛ لعلَّها تتجاوز الظرفَ الراهن بكلِّ ما فيه من انسدادٍ وتكاليف باهظة. لقد تأسَّس الصراع على سرديّاتٍ دعائيّة ظالمة، وقبل أن يخسره العربُ فى ميدان الحرب، خسروه فى السياسة والدبلوماسية والإعلام. واليوم؛ نقفُ عند مُفترَق طرقٍ، نحمل روايتنا عن القضية ولا نُحسِن تسويقَها للآخرين، وفى هذا جانبٌ يقعُ على عاتق الفلسطينيين أنفسهم، وعجزهم الطويل عن الاتفاق على مُدوَّنة وطنيةٍ جامعة، ثمّ عن تنظيم صفوفهم لخدمة مشروعٍ تحرُّرى واحدٍ لا تُداخله الشوائب أو تتنازعه الولاءات؛ إنما لا يُمكن إنكار أنَّ بعض الجوانب تقع فى حيِّز الجامعة العربية ومنظومة العمل المشترك، فى إطارها القومى، أو حتى امتدادًا إلى مرافق الرابطة الإسلامية التى أقحمت نفسها على الصراع، ومهما قُلنا عن عدالة القضية وإنسانيتها خارج تصنيفات العرق والدين؛ فشئنا أم أبينا صارت الصفةُ العقائدية مُلازمةً لاشتباك المُحيط الإقليمى مع المسألة. وهنا قد لا يكون مُفيدًا الانسياق وراء شعارات الحقوق التاريخية، والمُقدَّسات، ونظرية الوقف الإسلامى التى جعلتها الحركاتُ الأُصوليّة ثابتًا لا يقبل النقاش، بقدر ما يتوجَّب الحديث عن المواكبة الإعلامية للقضية، والخروج من أَسر الرواية الإيمانية التى نتداولها فيما بيننا، إلى صيغةٍ عقلانية ناضجة نحملها للآخر المُختلف: من أوّل الغرب المُنحاز بأثر التاريخ والرباط الثقافى وعُقدة الذنب والغرور الأنجلوساكسونى وغير ذلك، وإلى الآخر المُباشر داخل حدود فلسطين التاريخية؛ أى الإسرائيليين أنفسهم.


وَعَت تل أبيب مُبكّرًا أنها تخوض خصومةً ثقافية وهويّاتية بأكثر من كونها نِزالاً خشنًا، وما الحرب إلَّا واحدة من تجلِّياتها وأدوات إدارتها. ربما لهذا سعت إلى المُوازنة بين اختصام العرب والانخراط فى ثقافتهم، فلم تستبعد اللغةَ وميراثها الحضارى والإبداعى، ولم تنقطع عن توظيف ذلك فى خدمة أهدافها العُليا. إنهم يقرأون أدبَنا ويستهلكون فُنونَنا كما نفعل وأكثر، ولديهم آلةٌ دعائيّة عربية أكثر اتِّساعًا وديناميكيّة من آلاتنا، واهتمّوا بالوجود وسط الأجيال الجديدة على مواقع التواصل، عبر عناوين رسمية واضحة وأُخرى أهليّة وشبابية مُراوغة، والتفاعل على صفحاتهم يُشير إلى رؤيةٍ طويلة المدى غايتُها تطبيع وجودهم فى الذهنية العربية، وما يبدأ اليوم رفضًا وسِبابًا سيصير غدًا تقبُّلاً وحوارًا. نظرة على حسابات أفيخاى أدرعى وغيره، وتتبُّع طريقة تعاطى المُستخدمين العرب قبل الحرب الأخيرة، تكشف عن تحوُّلاتٍ مُزعجة، بطيئة صحيح لكنها واضحة ويُمكن التماسُها، وفى المُقابل فإننا غائبون تمامًا عن المُواجهة فى ساحة الأفكار والمرويّات، وعداوتنا لصيغة الاحتلال انطبعت على نظرتنا لمُجتمعه الذى صار أمرًا واقعًا، وعلينا الاشتباك معه ومُخاطبته والتأثير فى وعيه، مثلما تعمل سُلطاته فى بيئتنا ومع قواعدنا الشعبية.


ولا ينحصرُ الأمرُ فى أذرعها؛ فبجانب منصَّاتها الظاهرة والمُستتِرة، تتربَّح من ضَخٍّ إعلامىّ كثيف للوسائل الغربية، إمَّا لإيمان عقائدىّ يندرج تحت المسيحية الصهيونية، أو لروابط سياسية واقتصادية، أو خوفًا من جماعات الضغط ومُعاداة السامية. والمُحصِّلة أنّ سردية إسرائيل تقتحمُ البيوت العربية من كلِّ جهةٍ، وتتنوَّع فى المضامين والمعالجات لحَدِّ أن تتخفَّى وتُدخل التلبيس على الناس. وبينما تُسوِّق الدولة العبرية نفسَها بلدًا ليبراليًّا مُنفتحًا، وتسحب دعايتها على الإعلام ضِمنًا؛ فإنها فى الواقع تُنفِّذ بنود «الهاسبرا» بدقّةٍ وإحكام، وأقرب نماذجها عند جوبلز وماكينات الدعاية النازية. وباستثناء أصواتٍ يسارية خافتة ومُهمّشة، تضع السلطةُ يدَها على بقيّة المنافذ بأدواتٍ عدّة، من الملكية إلى المصالح مع المُلّاك، ومن الابتزاز بالقوميّة التوراتية إلى الحصار بالرقابة العسكرية، وقبلها قولبةُ الرأى العام ضمن فلسفة الخطر الوجودىّ والحياة على حدِّ السيف، واستثمار المظالم التاريخية وفكرة الحق الدائم فى التعويض وغفران الذنوب. ويُفسِّر صحفى «هآرتس»، جدعون ليفى، المسألةَ بأنها انحرافٌ يُصبح فيه الإعلام الحرُّ فى بلدٍ ديمقراطىّ خادمًا للشموليّة الشعبوية.. وهو إذ يتجاهل الحقيقة؛ إنما يُنافق السلطة ويُضلِّل الجمهور، وسندُه مُغازلة الناس وتثبيت «حصانة المظلوميّة»؛ ما يتنافى بالضرورة مع نقد السياسات العدوانية وإبراز عوارها، وتعليق جرس الإدانة فى رقبة الجيش اليهودى، وقد كان تعويضًا مع الجغرافيا عن قرون الشتات والتنكيل، وصولاً للمحرقة التى صارت رصيدًا تجاريًّا لا يجب أن ينفد.
ويخلُص الرجل الزاعم أنه كفرَ بالصهيونية، إلى أنّ تصويب المُقاربة الإعلامية يُمكن أن يُنجزَ رؤيةً أعقل للصراع، ويُؤهِّل البيئة الساخنة لفكرة السلام والعيش المشترك. ومع التسليم بأنّ أغلب الصهاينة يمتلئون بنزعةٍ عدوانيّة صاخبة، ولعلَّهم يتَّفقون فى انتزاع كامل فلسطين؛ ولو أفضى لإدامة مُعاناة الفلسطينيين أو حتى إبادتهم؛ فإنَّ الفَهم المبدئى للعُقدة لا يمنعُ من الاجتهاد لتفكيكها، وتجريب التسرُّب الناعم فى العقلية الإسرائيلية؛ على أمل أن يُنتِج تأثيراتٍ اجتماعيّةً أكثر كفاءةً فى مُواجهة جنون الساسة والجنرالات، أو بالقليل يُواكب جهودَ الدبلوماسية والمقاومة، ويُعزِّز أثرَهما الإيجابى فى دَفع القضية على طريق التسوية الدائمة، أو تحسين الشروط مُؤقّتًا.


الخلاصة؛ أننا نحتاج منصّةً إعلامية لمُخاطبة الداخل العبرى. الفكرةُ أن يرى ما يُحجَب عنه بإملاءٍ سُلطوى عسكرى، وأن يُعاين جانبًا إنسانيًّا للسرديّة بعيدا من شيطنة الخصوم. والمهمّة أكبر من قدرات الفلسطينيين، ولا ينبغى أن تضطلع بها دولةٌ بمفردها. ربما يصحُّ أن تتولى الجامعة العربية تنسيقها وتدبير تكاليفها وصياغة خطوطها العريضة، أو إحدى مرافق العمل المشترك: اتحاد إذاعات الدول العربية، منظمة التعاون الإسلامى، رابطة العالم الإسلامى، المنظمتان العربية والإسلامية للتربية والثقافة والعلوم «ألكسو وإيسيسكو»، أو كلها معا. الفكرة أن تتأسَّس ذراعٌ إعلامية تُجسّد الحق الفلسطينى وتنوب عنه، وتُمثّل رؤية الإقليم المُتوازنة، وتضعُ الخطابَ المُعتدلَ وأفكارَه أمام الجمهور المُنحاز أو المُضلَّل فى دولة الاحتلال، من خلال وسائط مُتشابكة تبثُّ بالعبرية، تليفزيونيا ورقميا، فتعرضُ الرأى ومُقابلَه، وتشرحُ رؤانا وتُفنِّد أكاذيبهم، وتُتيح مساحةً حُرَّة للنقاش والجدل الخلّاق، على أرضيّةٍ إنسانية يَحُدّها القانون والأخلاق، وتضبطها قِيَم التسامح والعيش المشترك، من موقع الندّية، ودون عداواتٍ أُصوليّة وراديكاليات دينية، توراتيّة أو مُعمَّمة.


وإن رأى البعض فى الطرح شيئًا من الرومانسية، وأن تاريخ النزاع لا يشى بتصويب انحرافات العدوِّ بتلك السهولة؛ فالرد أننا جرّبنا كلَّ الخيارات لثمانيةِ عقودٍ؛ لكنها كانت تجارب مع صُقور السلطة، ولم نُجرِّب صُقورَ الشارع وحمائهم، وإذا تعذَّرت الحرب على قاعدتهم الشعبية فقد يكون الأوفق أن نُجالسهم على طاولة الحوار، فلنُجرِّب مرّةً أُخرى، ولتضطلع مُؤسَّسات العمل المُشترك عربيًّا وإسلاميًّا بأدوارها الواجبة؛ فيما فوق إصدار البيانات المبدئية، إلى مهمّة شرحها وتسويقها، وحرمان العدو المُدجَّج بالتخليقات والسلاح من ظهيره الشعبوى المُتماسك؛ فلعلَّ الوصول لجبهته الداخلية بالرواية الغائبة والمُعمَّاة، أنجع من استدراجه لجبهتنا الهشَّة بخياراته الدامية؛ ليعود كلَّ مرّة إلى حاضنته بإصاباتٍ طفيفة، ودعاياتٍ لا تنفد، ولا تتوقف عن إعادة المسألة إلى نقطة الصفر.










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة